الاتحاد الأوروبي في مأزق كارثة غزة.. المصالح التجارية تُفرمل العقوبات على إسرائيل

عقب ظهور مؤشرات موثقة على انتهاك تل أبيب لحقوق الإنسان

الاتحاد الأوروبي في مأزق كارثة غزة.. المصالح التجارية تُفرمل العقوبات على إسرائيل
انتشال جثمان أحد الضحايا في غزة

كشف تقرير حديث صادر عن الاتحاد الأوروبي عن وجود مؤشرات واضحة على انتهاكات إسرائيلية جسيمة لحقوق الإنسان في قطاع غزة، وذلك بعد مرور أكثر من 18 شهرًا على اندلاع الحرب التي تسببت في تهجير أكثر من مليوني فلسطيني، وخلّفت آلاف القتلى والجرحى والمشردين، إلى جانب تدمير واسع للبنية التحتية، وظهور مخاوف جدية من مجاعة متفاقمة في القطاع.

ورغم هذا التقييم، يرى خبراء القانون الدولي والمختصون في الشأن الأوروبي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الاتحاد الأوروبي لا يبدو مستعدًا حتى الآن لفرض عقوبات ملموسة على إسرائيل، مشيرين إلى أن تشابك المصالح السياسية والاقتصادية مع تل أبيب، إلى جانب غياب الإرادة السياسية، يقيدان قدرة أوروبا على التحرك الجاد.

ويُعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل، إذ تمثل التجارة الثنائية نحو ثلث حجم التبادل التجاري للبضائع. وبلغت قيمتها 42.6 مليار يورو (نحو 49 مليار دولار) في عام 2024، فيما لم يتضح حجم التجارة المتصلة بالمستوطنات الإسرائيلية.

والأحد، نقلت وسائل إعلام دولية فحوى تقرير صادر عن مكتب الممثل الخاص لحقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي، يُقيّم مدى التزام إسرائيل ببنود اتفاق الشراكة الأوروبية. وخلص التقرير إلى وجود انتهاكات محتملة لبنود الاتفاق، لا سيما ما يتعلق بـ"احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية"، وهي الشروط المنصوص عليها صراحة في المادة الثانية من الاتفاق.

مؤشرات الانتهاكات

أشار التقرير إلى أن إسرائيل قد تكون أخلّت بالتزاماتها، استنادًا إلى عرقلة إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، واستهداف المدنيين والمرافق الطبية والصحفيين، وعمليات تهجير قسري، وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، والاعتقالات العشوائية والانتهاكات المتكررة.

وفي هذا السياق، وصف كلاوديو فرانكافيلا، نائب مدير مكتب "هيومن رايتس ووتش" في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، التقرير بأنه "يصل إلى نتيجة واضحة، لكن بأسلوب مخجل ومراوغ، وهي أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي"، داعيًا دول الاتحاد إلى تحرك حاسم.

ومن المرتقب أن يعقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اجتماعًا حاسمًا، الاثنين، لمناقشة العلاقة السياسية والاقتصادية مع إسرائيل، في ضوء تقييم رسمي حول مدى التزامها باتفاق الشراكة.

وكانت هولندا قد أطلقت، في 7 مايو، دعوة صريحة لمراجعة الاتفاق، بدعم من فرنسا. وبحلول 20 مايو، وافقت 17 دولة من أصل 27 على هذه المراجعة، بينما رفضتها 9 دول، واتخذت لاتفيا موقفًا محايدا.

وأكدت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، أن "أغلبية الدول الأعضاء تؤيد المراجعة، بسبب الوضع الكارثي في غزة".

تحركات أوروبية

شهدت الأسابيع الأخيرة تحركات أوروبية متزايدة على صعيد وطني، إذ أقرت أيرلندا قانونًا لحظر استيراد بضائع المستوطنات، فيما دعت السويد لفرض عقوبات على وزراء ومستوطنين متطرفين، كما طالبت 9 دول أوروبية، بينها إسبانيا، وبلجيكا، والسويد، وأيرلندا، بتقديم مقترحات لوقف التجارة مع المستوطنات.

وصرح وزير الخارجية البلجيكي، ماكسيم بريفو، بأن "الاتحاد الأوروبي مطالب بضمان توافق سياساته التجارية مع القانون الدولي"، مؤكدًا أن "فصل التجارة عن المسؤوليات الأخلاقية والقانونية لم يعد ممكنا".

وفي 20 يونيو الجاري، أصدر جهاز العمل الخارجي الأوروبي (EEAS) تقييمًا داخليًا أكد وجود "مؤشرات موثوقة" على خرق إسرائيل لبنود الاتفاق، خاصة ما يتعلق بمنع دخول المساعدات، واستهداف منشآت طبية، ومقتل أعداد كبيرة من المدنيين، وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة دون محاسبة.

لكن التقرير الأوروبي لم يتضمن توصيات بفرض عقوبات فورية، بل يُنتظر أن يُعرض رسميًا على الوزراء الأوروبيين في الاجتماع المرتقب في بروكسل.

عقبة الإجماع الكامل

وتفرض اللوائح الأوروبية شرط الإجماع الكامل بين الدول الـ27 لتمرير قرارات ذات طابع أمني أو سياسي، ومنها العقوبات. وهو شرط معقد يعرقل أي مسار موحد، خاصة في ظل وجود دول أوروبية معروفة بمواقفها الداعمة لإسرائيل.

لكن في المقابل، يتيح النظام الأوروبي إمكانية اتخاذ إجراءات تجارية، مثل تعليق برامج التعاون أو أجزاء من اتفاق الشراكة، عبر آلية "الأغلبية المؤهلة" التي تتطلب تأييد 55% من الدول تمثل 65% من سكان الاتحاد، ما يفتح الباب أمام تحرك جزئي دون عرقلة تامة.

ورغم الاعتراف الأوروبي بوجود انتهاكات واضحة من جانب إسرائيل، لا تزال الاستجابة الفعلية مترددة ومحكومة بحسابات المصالح السياسية والاقتصادية. 

انقسام أوروبي

في وقت تتصاعد فيه الدعوات الأوروبية لمراجعة العلاقة مع إسرائيل بسبب الحرب المستمرة في قطاع غزة والانتهاكات الإنسانية المتزايدة، تؤكد أصوات سياسية وقانونية أن التحرك الأوروبي لا يزال خجولاً، وعاجزًا عن الترجمة الفعلية لبيانات الإدانة إلى إجراءات ملموسة، في ظل توازنات معقدة بين المصالح السياسية والاقتصادية والالتزامات الأخلاقية.

بدورها قالت المحللة السياسية المتخصصة في الشؤون الأوروبية، جيهان جادو، إن التأخر الأوروبي في اتخاذ موقف حازم تجاه إسرائيل يعود بشكل أساسي إلى الانقسام الداخلي بين دول الاتحاد حول كيفية التعاطي مع الانتهاكات، مشيرة إلى أن التردد يعكس أيضًا سعي العواصم الأوروبية لموازنة المصالح الاقتصادية والسياسية مع التزاماتها الإنسانية والدبلوماسية.

وأضافت جيهان في تصريح لـ"جسور بوست": "بدأت دول مثل فرنسا وإسبانيا تلوّح بإمكانية فرض عقوبات أو مراجعة اتفاق الشراكة، وذلك تحت ضغط الرأي العام المحلي وتدهور الوضع الإنساني في غزة، إلا أن هذه التحركات لم تتحول حتى الآن إلى قرارات حقيقية".

وتابعت: "الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات جزئية، وهناك ضغوط من عدة دول لتقليص التعاون التجاري مع تل أبيب، لكن هذه المقترحات تواجه معارضة من دول محورية مثل ألمانيا والتشيك، ما قد يؤجل أي خطوات حقيقية حتى الشهر المقبل على أقل تقدير".

ورغم التوصيات العلنية بفرض عقوبات، ترى جادو أن غياب الإرادة السياسية الأوروبية، والخوف من تضرر المصالح الاقتصادية مع إسرائيل، يمثلان عقبتين أساسيتين أمام التحرك الجماعي.

كما أشارت إلى أن "المصالح المشتركة بين العرب والاتحاد الأوروبي قوية، خاصة في مجالات الطاقة والتجارة، لكنها لم تُترجم بعد إلى أدوات ضغط فعالة على إسرائيل".

وخلصت جادو إلى القول: "بعض الدول الأوروبية تخشى فقدان نفوذها في الشرق الأوسط، أو اهتزاز علاقاتها مع إسرائيل، فيما تصر دول أخرى على ضرورة أن يكون احترام حقوق الإنسان شرطًا جوهريًا لأي شراكة. لكن حتى الآن، لا تزال الاعتبارات الاقتصادية تتفوق على المبادئ الأخلاقية".

غياب الإرادة

من جهته، اعتبر أستاذ القانون الدولي المتخصص في الشأن الفلسطيني، الدكتور أمجد شهاب، أن التحرك الأوروبي لا يعاني من تأخر في رصد الانتهاكات بقدر ما يعاني من تماهٍ مع المصالح الغربية، والتي كانت من الأسباب المؤسسة لوجود هذا الكيان الإسرائيلي منذ عام 1948.

وقال شهاب لـ"جسور بوست": "لا يمكن فصل إسرائيل عن المنظومة الغربية، وخصوصًا الأوروبية، ولذلك فإن فرض عقوبات حقيقية من طرف أوروبا أمر غير مرجح في المرحلة الحالية"، مشيرًا إلى أن "الدول الأوروبية تفتقر إلى رغبة سياسية جادة في الضغط على إسرائيل رغم الجرائم التي ترقى إلى جرائم حرب مكتملة الأركان.

وتابع: "حتى مع الانتهاكات الصارخة، لا يبدو أن الاتحاد الأوروبي يشعر بالذنب لصمته، ولم يستخدم ثقله السياسي والاقتصادي لفرض احترام القانون الدولي الإنساني، بل يستمر في توفير غطاء ضمني لهذه الجرائم".

ودعا شهاب، في ختام حديثه، إلى موقف عربي أكثر فاعلية واستقلالية، قائلًا: "الرهان على التحرك الأوروبي وحده لم يعد مجديًا، ويجب على الدول العربية أن تفعّل آلياتها الجماعية للدفاع عن الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت وطأة حصار واضطهاد يومي وانتهاكات لا تتوقف".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية